الأحد 03/نوفمبر/2024 - 07:19 م
محمد حافظ إسماعيل (28 أكتوبر 1919 - 1 يناير 1997) رجل دولة مصري من الطراز الأول، تقلد مناصب عسكرية ودبلوماسية واستخباراتية كثيرة خلال 4 عقود، وعمل رئيسًا للمخابرات العامة عام 1970، ومستشارًا للأمن القومي منذ 1971 وحتى 1974، وهو المنصب الذي استحدثه الرئيس محمد أنور السادات لأول مرة في تاريخ مصر، وعينه فيه لتمتعه بقدرات دبلوماسية وعسكرية وسياسية فذة.
واقترب محمد حافظ إسماعيل من أعلى دوائر صنع واتخاذ القرار في مصر لعقود طويلة، ورأى واطلع على أهم الملفات العسكرية والسياسية والاستخباراتية، وخدم مصر بإخلاص وتجرد عن الهوى والمصلحة بشكل أهله لكي يكون أحد أبرز الرجال الوطنيين المؤثرين في تاريخ مصر المعاصر، ورجًلا للدولة كما ينبغي أن يكون.
وفي كتابة المهم «أمن مصر القومي في عصر التحديات» الذي نُشر للمرة الأولى عام 1987، قدم لنا حافظ إسماعيل سيرته الإنسانية والمهنية، وخلاصة معارفه وخبراته، التي تستحق بجدارة أن تصبح دروسًا للأجيال الحالية والمقبلة في مصر.
وقدم رؤية موضوعية عميقة عن أمن مصر القومي على مدى نصف قرن، وتحليلًا لأهم الأحداث العسكرية والسياسية التي شهدتها مصر والمنطقة منذ العهد الملكي، مرورًا بقيام ثورة يوليو 1952 وسنوات حكم الرئيس جمال عبدالناصر، وانتهاءً بحرب أكتوبر المجيدة، وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وكافة مُستجدات ومتغيرات الوضع المصري والإقليمي حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
وأبرز ما يُمكن رصده والتوقف عنده في هذا الكتاب هو وطنية وإخلاص مؤلفه، وعقلانيته وموضوعيته وواقعيته، وقدرته على التمييز بوضوح وحسم بين الاعتبارات الاستراتيجية ومحاذير السياسة وألاعيبها، وتأكيده على مفهوم الأمن القومي واسع النطاق ويرتبط بأمن الجبهة الداخلية، وأهمية وحدة الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات والمخاطر الخارجية، وتواضعه الإنساني مع تقديره واعتزازه بأبناء جيله الشرفاء الذين خاضوا معارك حرية واستقلال مصر، ودافعوا عن أمنها واستقرارها ووحدة وسلامة أراضيها.
وكتب محمد حافظ إسماعيل عن جيله ودوره الوطني فقال: كان هدفنا هو أمن مصر وسلامتها، واستقلالها الوطني ووحدة أراضيها، وسيطرتها على مواردها الطبيعة وثرواتها، ثم حقها في أن تختار طرق تطورها وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي. ولقد كان نصيبنا الهزيمة حينًا والنصر حينا آخر، وكان علينا أن نتصدى للهزيمة كما نرحب بالانتصار؛ فالشعوب تُهزم وتنتصر ولكنها لا تتوقف بل تتحرك دائمًا في انطلاقها، تعرف لماذا هُزمت، ولماذا انتصرت، لكي تتسلح لخوض معركة أخرى جديدة، حتى يتصاعد في النهاية خط استقلالها، وتنميتها، وتطور مجتمعها.
كما كتب عن أهمية وحدة الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات والمخاطر الخارجية، وعن أهمية دعم الشعب لخيارات وقيادات الدولة، ومد جسور الفهم المتبادل والثقة بينهما، فقال: لقد ظلت جماهير هذا الشعب هي دائمًا أمضى أسلحة الكفاح وأعظمها فاعلية، وأكثرها حسمًا لنتائج الصراع. ولهذا فقد ارتبط نجاح شعبنا على جبهته الخارجية بقدر ما توفرت له من قوة واستقرار على جبهته الداخلية السياسية والاقتصادية والعسكرية، فالعمل الخارجي لا يُمكن أن يُحقق الكثير ما لم يستند إلى قاعدة داخلية وطيدة وآمنة.
ومن أهم الدروس الأخرى، التي يُمكن أن نستخلصها من هذا الكتاب القيم، هو ضرورة وجود فقه الأولويات عند القيادة والشعب، خاصة عندما تتجاوز تطلعاتنا بكثير قدراتنا ومواردنا، وعندما تواجهنا تحديات تتجاوز قدرتنا على التصدي؛ لأن المنطقي في مثل هذه الظروف أن تكون لنا أولويات واضحة، مع إعطاء أهمية مركزية لدور القيادة في إدارة الدولة ودوائر الصراع المختلفة وتحديد الأولويات، ويتضح هذا من قوله: لقد علمتنا التجربة المتميزة، أن عناصر النجاح تكمن في طبيعة القيادة التي تُدير الصراع، وقدرتها على تحديد الأهداف والأولويات بهدوء، ثم إصرارها على متابعتها دون أن تتخطفها المعارك الهامشية.
ومن أبرز الدروس، ضرورة وضع استراتيجية للعمل تتضمن تعاون كل الجهات والمؤسسات في مواجهة التحديات والمخاطر والضغوط الداخلية والخارجية؛ حتى لا نصبح مجموعة من الجزر المنعزلة، ونُهدر الفرص والإمكانات، ونعيق تحقيق الأهداف العليا للدولة، وفي هذا الصدد كتب يقول: العلم العسكري لا يؤمن بقدرة سلاح واحد مهما كانت صفاته القتالية على كسب المعركة؛ فالمعركة والحرب تخوضها مجموعة من القوى والأسلحة، يتوقف على كفايتها وكفاءتها ومدى تعاونها أن يتحقق أو لا يتحقق الانتصار.
في النهاية، رحم الله كيسنجر مصر محمد حافظ إسماعيل، رجل الدولة الاستثنائي في شخصيته وصرامته ودقته وجديته، وما أحوجنا اليوم للعودة لقراءة كتابه القيم «أمن مصر القومي في عصر التحديات» في هذه المرحلة المهمة والمضطربة من تاريخ مصر والمنطقة، وفي ظل ما استجد مؤخرًا من أحداث ومُخططات تستهدف نشر الانقسام والفرقة في الداخل المصري، وإضعاف ثقة ومصداقية السلطة ومؤسسات الدولة لدى الشعب، وإضعاف مركز مصر السياسي والاقتصادي وقدرة مؤسساتها الوطنية على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
0 تعليق