منذ انتخاب أول رئيس للولايات المتحدة عام 1789، ومع كل رئيس جديد، تتجه الأنظار نحو سياساته الخارجية، خاصة تجاه الشرق الأوسط. وتاريخياً، لطالما كان للمنطقة أهمية كبرى في الاستراتيجية الأميركية بسبب موقعها الجغرافي الحيوي وثرواتها الهائلة من النفط، إضافة إلى الروابط المعقدة مع إسرائيل. وقد شكّل كل رئيس أميركي سياسته تجاه الشرق الأوسط بناءً على معادلات تجمع بين المصالح الشخصية، والتأثيرات الداخلية، والسياسة الخارجية الأميركية طويلة الأمد.
الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط: بدايات استراتيجية وأدوار نفطية
بدأت ملامح السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط بالظهور منذ أواخر القرن التاسع عشر، لكنها ازدادت زخماً بعد الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية. وفي الثلاثينيات، جاءت الاكتشافات النفطية لتضفي بعداً استراتيجياً جديداً على المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة. خلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت المنطقة مركزاً للصراع بين القوى الكبرى، وفي عام 1943، زار الرئيس فرانكلين روزفلت مصر للمشاركة في مؤتمر القاهرة، مشيراً بذلك إلى اهتمام أميركي رسمي بالشرق الأوسط.
لكن الزيارة الأبرز جاءت في 1945 عندما التقى روزفلت الملك عبد العزيز آل سعود على متن سفينة حربية أميركية، حيث تم وضع حجر الأساس لعلاقة نفطية وأمنية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والسعودية. هذه العلاقة كانت مثالاً على كيفية تطويع واشنطن للمصالح الاقتصادية في خدمة استراتيجياتها الخارجية، وهو نمط بات سائداً منذ ذلك الوقت.
التأثيرات الجيوسياسية: الحرب الباردة والمصالح المتضاربة
مع بداية الحرب الباردة، برزت الحاجة إلى تعزيز نفوذ أميركا في الشرق الأوسط لمواجهة الاتحاد السوفييتي. ومن هنا، بدأت الولايات المتحدة بتطوير تحالفات مع عدة أنظمة سياسية، بعضها غير مستقر، لكنها كانت ضرورية لموازنة القوى مع السوفييت. في عام 1957، جاءت "عقيدة أيزنهاور" كأول إعلان رسمي لمبدأ التدخل الأميركي في الشرق الأوسط، إذ أكدت تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية للدول المهددة بالشيوعية، مما مهد الطريق لتورط أميركي أكبر في المنطقة.
في السبعينيات، كانت العلاقات الأميركية المصرية مثالاً حياً على كيفية تغيير تحالفات الولايات المتحدة. بعد أن تحول الرئيس المصري أنور السادات من التحالف السوفييتي إلى المعسكر الغربي، أصبح هذا التحول نقطة تحول في السياسة الأميركية، وهو ما أسفر لاحقاً عن اتفاقية كامب ديفيد تحت إشراف الرئيس جيمي كارتر، كأول اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة عربية.
النفط.. المورد الحاسم في تشكيل السياسات الأميركية
كان النفط، ولا يزال، عاملاً أساسياً في رسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. يصف هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، في كتابه "الدبلوماسية" كيف أصبح النفط أداة استراتيجية في السياسة العالمية، موضحاً أن أميركا اضطرت للدخول في علاقات معقدة مع بعض الأنظمة الشرق أوسطية لتأمين استقرار سوق النفط. وتعود هذه العلاقات إلى عقود طويلة، حيث ضمنت واشنطن تدفق النفط بشروط مريحة، مقابل دعم عسكري وسياسي لأنظمة معينة.
إسرائيل كحليف استراتيجي: تأثيرات داخلية وضغوط سياسية
تلعب إسرائيل دوراً أساسياً في السياسة الأميركية منذ تأسيسها عام 1948، ويعود ذلك جزئياً إلى النفوذ القوي الذي تمارسه جماعات الضغط مثل لجنة العلاقات الأميركية الإسرائيلية (أيباك). يوضح كيسنجر أن التحالف الأميركي مع إسرائيل مبني على مصالح استراتيجية، لكنه يتلقى أيضاً دعماً قوياً من الداخل الأميركي. هذا الدعم أسهم في توجيه الولايات المتحدة للحفاظ على التزاماتها تجاه إسرائيل، بينما تستمر في محاولة تحقيق توازن مع حلفائها العرب، مثل السعودية ومصر، لضمان استقرار سوق النفط.
القرارات الحاسمة لرؤساء أميركا في الشرق الأوسط
اتخذ رؤساء أميركا قرارات هامة في الشرق الأوسط، نذكر منها:
"عقيدة أيزنهاور" (1957): دعم اقتصادي وعسكري للدول المهددة بالشيوعية في المنطقة.
معاهدة كامب ديفيد (1978): أول اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة عربية، تحت إشراف الرئيس كارتر.
غزو العراق (2003): قرار اتخذه الرئيس جورج بوش الابن وأدى لإسقاط نظام صدام حسين، رغم أنه أثار جدلاً واسعاً داخلياً ودولياً.
اتفاقات أبراهام (2020): برعاية الرئيس ترامب، توصلت دول عربية مثل الإمارات والبحرين إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
دور "الدولة العميقة" في رسم السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط
الشرق الأوسط في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، تتزايد التساؤلات حول مستقبل السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. يرى المحللون أن الرئيس الأميركي القادم، سواء كان دونالد ترامب أو كامالا هاريس، سيواصل سياسة الولايات المتحدة في دعم التحالفات التقليدية، لكن التركيز قد يختلف بين الجمهوريين والديمقراطيين. بينما يُرجّح أن يميل ترامب إلى سياسة دعم إسرائيل بقوة ومعارضة إيران، فإن هاريس قد تتبنى نهجاً دبلوماسياً لإعادة التوازن الإقليمي، مع تركيز أكبر على حقوق الإنسان.
ويؤكد المراقبون أن استمرار تواجد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد يتأثر بالمنافسة العالمية المتزايدة مع الصين وروسيا، مما يفرض على الإدارة الأميركية تعزيز علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع حلفائها في المنطقة. ويرجح الخبراء أن المرحلة المقبلة قد تشهد اهتماماً أميركياً متزايداً في الحفاظ على استقرار المنطقة من خلال التعاون الاقتصادي والأمني بدلاً من التدخلات العسكرية المباشرة.
في نهاية المطاف، ستظل سياسات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط محكومة بمزيج من المصالح الاقتصادية والأمنية، مع تأثير شخصيات الرؤساء الأميركيين الذين يضعون طريقتهم الخاصة على استراتيجية تظل ثابتة في أهدافها، وتراعي توازنات دقيقة وسط خريطة معقدة من التحالفات والصراعات.
0 تعليق