مسرحية "شكون أنت" لمحمد الأشعري.. رحلة فكرية تغوص في خبايا السلطة

0 تعليق ارسل طباعة

1 لعل هذا السؤال هو الأنسب للاقتراب من عوالم النص المسرحي الذي أصدره محمد الأشعري ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة (السلسلة رقم 73/ الطبعة الأولى 2024) تحت عنوان “شكون أنت”. تستلهم المسرحية أحداثها من الرسالة المفتوحة التي وجهها الصحفي خالد الجامعي إلى وزير الداخلية إدريس البصري، والتي نشرتها صحيفة “لوبنيون” باللغة الفرنسية بتاريخ 22 نوفمبر 1993.

كتب خالد الجامعي في رسالته، متحديًا الوزير بكل إصرار وجرأة: “إن التنازلات الصغيرة تتحول مع مرور الوقت إلى تنازلات كبرى، كما أن الخوف والمخاوف الصغيرة تتحول مع مرور الوقت إلى خنوع واستسلام. إن ما يتغذى عليه الشطط في استخدام السلطة هو خوفنا وخنوعنا اليومي.”

تستوحي شخصيات مسرحية “شكون أنت” بعض مواقفها من صدى كلمات خالد الجامعي؛ مما يضعنا أمام نص مسرحي يتناول مباشرة العلاقة بين الأدب والسياسة، وهي معادلة كانت محورًا للعديد من الدراسات والأبحاث. سأكتفي هنا بالإشارة إلى اثنتين منها:

Jacques Rancière: Politique de la littérature, Galilée, 2007

Philippe Sollers: Littérature et politique, Flammarion, 2014

إن سياسة الأدب، وفقًا لرنسيير، ليست سياسة يمارسها الكتّاب بشكل مباشر، ولا تتعلق بالكيفية التي يصورون بها البنى الاجتماعية أو الحركات السياسية أو الهويات المختلفة. بل يشير مصطلح “سياسة الأدب” إلى أن الأدب يمارس دوره السياسي بصفته أدبًا خالصًا؛ ومن هذا المنطلق، لا ينظر رنسيير إلى الأدب باعتباره مجرد تعبير فني، بل بوصفه فعلًا سياسيًا قادرًا على إعادة توزيع الإدراك وإعادة ترتيب الفهم الاجتماعي.

يستهل سوليرس كتابه باقتباس من فرانسوا مورياك: “سأعتبر السياسة أدبًا، فتتحول إلى أدب على الفور.” يعتقد سوليرس أن السياسة، رغم هيمنتها على العالم، تظل عاجزة عن السيطرة عليه كليًا، إذ تتبع مسارات محددة نحو اليسار أو اليمين أو الوسط. في المقابل، يتميز الأدب بحضوره الشامل وغيابه عن أي قيود، فهو حاضر في كل مكان. لذا، يبرز سوليرس الفارق بين السياسة، التي تفتقر إلى ديناميكية القراءة المتجددة، والأدب، الذي يمارس بحرية مطلقة، متجاوزًا حدود الزمان والمكان بفضل تنوع القراءات وتواصلها المستمر.

بهذا المعنى، تتضمن الجماليات الأدبية أبعادًا سياسية، حيث تعكس الأساليب الأدبية والبنى السردية والأنواع المختلفة مواقف سياسية، سواء أكانت معلنة أم ضمنية. فعلى سبيل المثال، اتسمت الواقعية الاشتراكية التي فرضها الاتحاد السوفييتي بجمالية مميزة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأيديولوجية الشيوعية، مما جعلها أداة تخدم أهداف الحزب السياسية. ومن هنا تبرز أهمية إعادة التفكير في العلاقة بين الأدب والسياسة؛ فقد رأى أنطونيو غرامشي أن الصراعات السياسية تتعدى حدود المؤسسات لتطال مجالات الثقافة والفكر، وفقًا لنظريته حول الهيمنة الثقافية. وفي هذا الإطار، يصبح الأدب ساحة يتقاطع فيها الصراع، حيث تتواجه الرؤى المختلفة للعالم، ويتمكن الكتّاب من لعب دور محوري في هذا الصراع من خلال تجسيد الأيديولوجيات والتفاعل معها.

رأى بعض المنظرين، مثل تيودور أدورنو، أن القيمة الحقيقية للفن تكمن في استقلاليته، وفي قدرته على تجاوز الاعتبارات السياسية والابتعاد عن تأثيراتها. وعلى النقيض من ذلك، اعتبر آخرون، مثل برتولت بريخت، أن الفن، بما في ذلك الأدب، يجب أن يكون ملتزمًا سياسيًا ويخدم قضايا اجتماعية وسياسية. وهكذا، يظل التوتر بين مبدأ الاستقلالية والالتزام السياسي عاملًا محوريًا في تحليل العلاقة بين الأدب والسياسة، مما يستدعي فهم الكيفية التي يتعامل بها الأدب مع قضايا السلطة والنفوذ، مع الحفاظ في الوقت ذاته على قدرته على تقديم رؤى فنية فريدة وأصيلة.

2 تمثل مسرحية محمد الأشعري “شكون أنت” رحلة فكرية تغوص في خبايا السلطة وتكشف عن تعقيدات شخصية رمسيس، المنقسمة بين رمسيس الأول ورمسيس الثاني، إلى جانب حضور شخصيتي مايا والمؤلف، مما يضفي على العمل بعدًا رمزيًا يثريه بتعدد الرؤى والصراعات الداخلية.

في تقديمه، أشار محمد بهجاجي إلى أن هذه المسرحية تنتمي إلى مسرح “البورتريه”، الذي يتميز بطابعه الإشكالي. يُعَدّ هذا التوصيف ذا أهمية خاصة، إذ يمثل مسرح البورتريه أسلوبًا في الكتابة المسرحية يركز على تقديم صورة دقيقة لشخصية معينة أو مجموعة من الشخصيات، سواء كانت واقعية أم خيالية. وليس هذا النوع من المسرح مقتصرًا على تتبع مجريات الأحداث أو بناء الحبكة الدرامية، بل يسعى أيضًا إلى تعميق تجسيد الشخصيات وكشف أبعادها النفسية والاجتماعية، مما يضفي على العمل عمقًا ودلالة تتجاوز السرد المسرحي التقليدي.

تُجسد شخصية رمسيس في مسرحية “شكون أنت” صورةً معقدةً تثير التفكير، حيث تنسج خيوطًا غامضة ومتعددة الأبعاد تعكس تصورات عميقة حول مفهوم السلطة وطبيعة الإنسان. تكشف هذه الشخصية عن التوترات الداخلية والتناقضات المرتبطة بأعباء التسلط، مما يجعلها رمزًا يجمع بين القوة والضعف، والسيطرة والاضطراب. بهذا، يُمثل رمسيس حكاية إنسانية غنية، تنفتح من خلالها الأبعاد المتناقضة للوجود والمصير.

3 ترمز المرآة في مسرحية “شكون أنت” إلى معانٍ متعددة، تتجاوز كونها مجرد أداة عاكسة لتصبح تعبيرًا عميقًا عن الهوية والحقيقة والسلطة. فهي تكشف الواقع وتخفيه في آنٍ واحد، مما يفتح المجال للتلاعب بالحقيقة وتشكيل الصور الزائفة. كما تبرز هشاشة الهوية وتعدد أبعادها، وتُظهر الكائن في تجلياته المختلفة. وإلى جانب ذلك، تجسد المرآة فكرة التكرار والانعكاس، فتلمح إلى دور التاريخ والأنظمة السياسية في إعادة إنتاج أخطائها.

4 ضمّن خالد الجامعي رسالته مقولة الخليفة عمر بن عبد العزيز: “السلطة قدوة وليست قوة.” لعلها إجابة دقيقة على سؤال “شكون أنت؟” وهي صالحة لكل زمان ومكان.

نعم؛ لا تقوم السلطة الحقيقية على القوة المادية، بل على القدوة الأخلاقية.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

أخبار ذات صلة

0 تعليق