راهنت الدولة، منذ 2019، على آلية “التمويلات المبتكرة” financements innovants من أجل ضمان تحصيل موارد إضافية لفائدة الميزانية العامة، ومواصلة تغطية وتيرة تمويل الاستثمارات العمومية المتسارعة، مع الحفاظ على المديونية العمومية عند مستوى محدد. يتعلق الأمر بآلية ترتكز على تدبير الأصول العقارية للدولة، عبر شراكة مع مستثمرين مؤسساتيين، خصوصا صندوق الإيداع والتدبير “سيديجي” والصندوق المغربي للتقاعد؛ لتصل قيمة العمليات المنجزة بواسطة هذه الآلية بين الأطراف المذكورة إلى 25.4 مليارات درهم عن هذه العمليات خلال السنة الماضية فقط.
وأفاد تقرير أنشطة مديرية الميزانية برسم 2023 انخراط صندوق الإيداع والتدبير والصندوق المغربي للتقاعد في عمليات تمويلية في إطار “التمويلات المبتكرة” بلغت قيمتها، على التوالي، 11.86 مليار درهم و13.58 مليار، علما أن هذه التمويلات شكل عمليات إعادة التأجير leaseback، وتهم تدبير الأصول الخاصة بمؤسسات عمومية عبر هيئات التوظيف الجماعي للقيم المنقولة OPCI، من خلال بيعها أولا، من أجل إعادة تأجيرها خلال مرحلة ثانية؛ فيما وصلت قيمة التمويلات المعبأة عبر الشريك المؤسساتي الأول 50 مليار درهم خلال الخمس سنوات الماضية، مقابل 21.2 مليار درهم عبر الشريك الثاني.
وحمل التقرير الصادر عن وزارة الاقتصاد والمالية أرقاما مهمة حول مسار نمو “التمويلات المبتكرة” خلال السنوات الماضية، حيث تراجعت من 7.15 مليار درهم إلى 2.38 مليارات بين 2019 و2020 بسبب تأثير جائحة كورونا وحالة عدم اليقين الاقتصادية، قبل أن تعود للارتفاع إلى 11.9 مليارات درهم عبر صندوق الإيداع والتدبير في 2021، وتوصل نموها مع الشريك ذاته إلى 25 مليار درهم خلال 2022، ليستقر إجمالي قيمة هذه التمويلات المعبأة خلال الخمس سنوات الأخيرة عند 72 مليار درهم؛ ما يطرح تساؤلات حول نجاعة هذه الآلية التمويلية، وتأثيراتها على تطور المديونية العمومية ومستقبلها.
“ديون خفية” في الميزانية العامة
أثار تقرير آخر عن صندوق النقد الدولي حول مديونية المغرب، الدين الخفي المرتبط بـ”التمويلات المبتكرة”؛ وهو يسلط الضوء على وضعية المالية العمومية بالمملكة، خصوصا ما يتعلق بالدين العمومي وآفاق تطوره المستقبلية.
وأشار في توقعاته إلى انتقال نسبة عجز الميزانية من 4.4 في المائة من الناتج الداخلي الخام في 2023 إلى 3 في المائة بحلول 2029، بفضل السيطرة المتوقعة على النفقات والعائدات، علما أن الآلية المذكورة التي اعتمدتها الدولة موازاة مع الخوصصة من تعبئة مبلغ 55.51 مليار درهم برسم السنتين الماضية والجارية، حيث تم اللجوء إليها بدلا من الاقتراض؛ إلا أن هذا الوضع لا ينفي عنها صفة الدين.
وأوضح سفيان حركات، خبير اقتصادي، أن “التمويلات المبتكرة، وخاصة عبر الشراكات مع مؤسسات استثمارية كبرى، يتيح للدولة مرونة أكبر في تمويل الاستثمارات العمومية، دون إضافة مباشرة للدين. لكن من ناحية أخرى، يخفي هذا النوع من التمويل الديون خلف الالتزامات طويلة الأجل التي يتعين على الحكومة دفعها للمستثمرين مقابل إعادة استخدام الأصول العمومية”، مؤكدا أن استقرار قيمة التمويلات المعبأة من صندوق الإيداع والتدبير وحده عند 50 مليار درهم على مدى خمس سنوات ومن الصندوق المغربي للتقاعد عند 21.2 مليار درهم يشير إلى زيادة في الاعتماد على هذه الآلية التمويلية؛ ما قد يزيد من تعقيد المديونية غير المباشرة في حالة لم يَجر تدبير هذه الأصول بعقلانية من أجل تحقيق عائدات كافية.
وأفاد حركات، في السياق ذاته، بأن “جزءا من التمويلات المبتكرة يعتبر دينا غير معترف به صراحة في الحسابات العمومية، حيث لا يظهر في المديونية المباشرة؛ لكنّه يعد دينا بالنظر إلى التزام الدولة بتسديد مبالغ إعادة التأجير مستقبليا، ما يلقي بعبء مالي على الحكومة على المدى البعيد، الأمر الذي قد يؤثر على قدرتها في تنفيذ سياسات مالية توسعية مستقبلا”.
ونبه الخبير الاقتصادي، في تصريح لهسبريس، إلى أن الاعتماد المتزايد على الأصول العمومية، من خلال بيعها وإعادة تأجيرها، يعد وسيلة مستدامة فقط عند تحقيق عائدات مجدية من هذه الأصول، مشيرا إلى أن الاستغراق في عمليات البيع دون تدبير فعال لهذه الاستثمارات قد يؤدي إلى تآكل ملكية الدولة ومواردها المستدامة؛ ما يقلل من خيارات التمويل خلال الفترة المقبلة.
ضمانات استدامة التمويلات وتغطية الالتزامات
تتمثل ضمانات استدامة “التمويلات المبتكرة” في المغرب في تنفيذ سياسات تمويلية ناجعة تعتمد على تنويع أدوات التمويل، وضبط تدبير الأصول العمومية، وتعزيز الشفافية؛ ما سيتيح للمملكة الاستفادة من الآلية التمويلية المذكورة لدعم الاستثمارات العمومية دون زيادة المديونية العمومية المباشرة، علما أن المراقبة الصارمة والتخطيط الاقتصادي طويل الأجل سيمكنان هذه الأدوات من أن تصبح مكونا أساسيا في الاستراتيجية الوطنية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام ومرونة مالية عالية، علما أن ضمانات الاستدامة يتعين ربطها بمشاريع تحقق عائدات اقتصادية أو اجتماعية ملموسة؛ من خلال تركيز التمويل على مشاريع البنية التحتية، مثل الطاقات المتجددة، والنقل، والمشاريع الحضرية، بما يضمن مساهمة مداخيلها في سداد الالتزامات المالية الناتجة عن التمويل المبتكر، مثل إعادة التأجير.
وأكد محمد موساوي، مستشار مالي وخبير في الهندسة المالية، أن “التمويل المبتكر يعتمد على تحويل الأصول العمومية إلى موارد تمويلية عبر عمليات، مثل إعادة التأجير أو البيع؛ لكن تزايد الاعتماد على هذه الأصول قد يؤدي إلى تآكل الاحتياطي الوطني من الأصول. لذا، يتعين أن تتبع الدولة سياسة معقلنة يقوم على الحفاظ على الأصول الاستراتيجية مع تدوير الأصول الثانوية التي تحقق عائدات إضافية”.
ووضح موساوي، في تصريح لهسبريس، أن وضع ضوابط على عدد ونوعية الأصول التي يتم استخدامها وضمان استغلالها فقط عند وجود حاجة ماسة أو عند تحقيق مداخيل تفوق تكلفة إعادة استئجارها سيساهم في الحفاظ على أصول الدولة الاستراتيجية من الاستنزاف.
وأضاف المستشار المالي والخبير في الهندسة المالية أنه لضمان استدامة “التمويلات المبتكرة” وتجنب الدخول في دائرة “الديون الخفية”، ينبغي على الدولة وضع آليات دقيقة للشفافية المالية والإفصاح عن الالتزامات المستقبلية الناتجة عن التمويل المبتكر؛ وهو ما يتطلب إدراج هذه الالتزامات في الميزانية العمومية وتقديم تقارير سنوية مفصلة حولها.
وأكد أن صندوق النقد الدولي وغيره من الجهات يوصون بتضمين الالتزامات غير المباشرة في تقارير الدين العمومي، من أجل ضمان عدم حدوث ارتفاع مفاجئ في مستوى المديونية نتيجة التزامات التمويلات المذكورة، خاصة تلك المتأتية عبر إعادة التأجير.
وأشار المتحدث إلى التعاون مع مؤسسات قوية مثل صندوق الإيداع والتدبير) والصندوق المغربي للتقاعد يُعتبر ضمانة إضافية لنجاح عملية تعبئة التمويلات، حيث تمتلك هذه المؤسسات خبرات مالية وإدارية يمكن أن تعزز كفاءة تدبير الأصول العمومية.
0 تعليق