التوطين النوعي يتفوق على الكمي: إعادة هندسة محفزات الاستثمار في المملكة العربية السعودية
في قلب التحول الاقتصادي الذي تعيشه المملكة العربية السعودية، من نموذج يعتمد على النفط التقليدي إلى اقتصاد متنوع يعتمد على المعرفة، يلعب التوطين النوعي دورًا أساسيًا في بناء مستقبل تنموي متوازن ومستدام. مع زيادة الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال، يصبح التحدي الأكبر هو تحويل هذه الاستثمارات إلى مصادر حقيقية للقيمة المحلية، بدلاً من الاكتفاء بجذب المستثمرين فقط.
التوطين النوعي كأساس للتنمية المستدامة
تشير البيانات الرسمية إلى نمو كبير في الاستثمارات، حيث تم منح أكثر من 14,454 ترخيصًا استثماريًا جديدًا في عام 2024، بزيادة بلغت 67% عن العام السابق، مما يعكس بيئة أعمال جذابة. كما وصل صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 59 مليار ريال، مقارنة بـ106.3 مليار ريال في 2023. ومع ذلك، يظل التحدي في التحول من الكمية إلى الأثر الفعلي، خاصة في القطاع الصناعي حيث يعمل أكثر من 1.2 مليون شخص، لكن نسبة السعوديين منهم لا تتجاوز 29%، بينما يقف المحتوى المحلي عند 46% في المشاريع الجديدة. هذه الفجوات تبرز الحاجة إلى إعادة تصميم الحوافز الاستثمارية لترتبط بمعايير دقيقة مثل نسبة التوطين التقني، تطوير الكفاءات الوطنية، جودة الوظائف، والاعتماد على الموردين المحليين، بالإضافة إلى الالتزام بمعايير ESG.
الإدماج الاقتصادي المحلي كمرحلة تالية
لتحقيق التوطين النوعي، يجب التمييز بين الاستثمار المباشر، الذي يشمل إنشاء مصانع ومراكز لوجستية، والاستثمار غير المباشر عبر الأسواق المالية. يُقترح إنشاء مصفوفة حوافز مزدوجة تعطي الأولوية للمشاريع التي ترفع نسبة المحتوى المحلي والتوطين التقني في حالة الاستثمار المباشر، مع تشجيع صناديق الاستثمار غير المباشر على دعم القطاعات الوطنية. كما تكشف تقارير وزارة الموارد البشرية عن فجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، رغم الالتزام بنسب توطين إلزامية تصل إلى 50% في بعض المهن. لذا، يجب منح امتيازات إضافية للمشاريع التي تساهم في تدريب الكفاءات الوطنية ونقل المعرفة، مثل الأولوية في التراخيص والحوافز المستدامة.
بالإضافة إلى ذلك، يتطلب التوطين النوعي التركيز على العدالة الجغرافية، حيث تتمتع كل منطقة بميزات تنافسية، مثل المنطقة الشرقية في مشاريع الهيدروجين الأخضر، أو مكة في السياحة الدينية. يُقترح تطوير منصة استثمار جغرافية ذكية ترتبط بخريطة حوافز تفاضلية تعتمد على الأثر التنموي. كما يجب دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال برامج عقود ابتكارية، مع تشجيع القطاع الخاص على رفع نسب المحتوى المحلي مقابل حوافز تنافسية.
في السياق الطويل الأمد، ينبغي دمج الجامعات مع المدن الصناعية عبر برنامج وطني يربط البحث بالإنتاج، مثل “من المختبر إلى المصنع”. أما بالنسبة لمشاركة المرأة، فقد بلغت نسبة مشاركتها في سوق العمل 36.2% في عام 2024، ويمكن تعزيز ذلك من خلال محفظة تمكين تهدف إلى زيادة تمثيلها في القيادة والتقنية. لضمان التنسيق، يُقترح إنشاء مجلس وطني للتوطين النوعي يطور مؤشرات تقيس جودة الوظائف ومدة بقاء الموظفين، بالإضافة إلى سجل للموردين المحليين ليعزز الاعتماد عليهم في العقود.
في النهاية، يمثل التوطين النوعي مقياسًا للسيادة الاقتصادية، حيث يركز على خلق فرص نوعية، نقل المعرفة، وتعزيز سلاسل الإمداد المحلية. إن مستقبل المملكة يعتمد على عمق الأثر والاستدامة، مما يحول الحوافز إلى أدوات استراتيجية للتنمية الحقيقية.